مدرسة لم يبق منها إلا قبة حوت مياة صرفها الصحى على رفاة سلطان ابن سلطان وأخ لسلطان.
تحدث المقريزى فى خططه عن مدرسة عُرفت بالأشرفية بالقرب من المشهد النفيسى لم يبق منها سوى قبة ، وإن نظرنا إلى حالتها الخارجية وجدناها أفضل بكثير من القبة التى تجاورها (قبة فاطمة خاتون) ، ولكن هل حالتها الداخلية مثل حالتها الخارجية ؟ أم أن جدرانها التى تشبعت بمياة الصرف الصحى تخفى كارثة وإساءة فى حق منشأها الذى بفضله تم فتح عكا .
هى قبة السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى الصالحى النجمى ، فلم يكن مجرد سلطان عادى بل أنه كان ابن لسلطان (المنصور قلاوون) بفضله سطع نجم دولة المماليك البحرية وبفضل أسرته تم المحافظة على الحكم لما يزيد عن القرن بالإضافة إلى أنه أخ لسلطان عُرف برائد العمارة الإسلامية وهو الناصر محمد بن قلاوون ، ولكنه لم يأخذ شهرته من ابيه أو أخيه ولكنه وبفضل قوته وشجاعته استطاع تكوين اسم ذكره الكثير والكثير .
السلطان الثامن من ملوك دولة المماليك البحرية ، تولى الحكم بعد وفاة ابيه سنة 689 هـ ، وكان والده قد أوكل إليه أمر السلطنة فى حياته بعد وفاة أخيه الملك الصالح على سنة 687 هـ .
ورغم ذلك عندما جاءت اللحظة الحاسمة وجدنا تردد المنصور قلاوون ورفضه بتولية الأشرف خليل ، فقد طلب الأشرف من القاضى فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده ، فدخل ابن عبد الظاهر الى المنصور قلاوون ولكنه رفض التوقيع على المبايعة ودخل له أكثر من مرة حتى قاله له “أنا ما أولى خليلاً على المسلمين” ، وعندما رأى الأشرف خليل المكتوب بغير علامة المنصور قال له : يا فتح الدين السلطان امتنع أن يعطينى وقد أعطانى الله ورمى التقليد من يده وتولى الحكم ، فهل كان خوف المنصور بمحله أم أنه كان يجهل مستقبل سلطان خلفه فى قوته وعزمه ؟
بعد تولى الأشرف خليل الحكم وبعد أن رسخت قدماه ومع بداية سنة 690 هـ أخذ بتجهيز جيشه لإتمام ما كان قصده والده من حصار عكا ، وبالفعل وصل عكا ولم يمضِ سوا ثلاثة أيام واستطاع فتحها ، والعجيب فى الأمر أن الله تعالى قد قدر لهم فتح عكا فى نفس اليوم والساعة التى أخذها الفرنج فيها ، وبعدها عاد إلى مصر بعد انتصار عظيم ، واستطاع فتح مدينة تلو الأخرى فكان من ضمن فتوحاته عكا وصيدا وبيروت وعتليت وبهنسا وقلعة الروم ومرعش وتل حمدان وصور ، فقد قال عنه ابن إياس فى ذلك لا يعرف فى أبناء الملوك من يناظره فى شدة العزم والشجاعة وقوة البأس ولو طال عمره لفتح غالب بلاد العراق .
ومع بداية سنة 693 هـ خرج من قلعة الجبل متجهاً إلى الصيد وصحبه وزيره شمس الدين بن السلعوس ونائب سلطنته الأمير بدر الدين بيدرا ومجموعة من الأمراء ، فلما وصل إلى الطرانة (قرية ضمن قرى مركز كوم حماده بمحافظة البحيرة) فارقه وزيره ابن السلعوس واتجه إلى الإسكندرية ، وظل السلطان يكمل صيده وطلب من نائبه وباقى الأمراء أن يسبقوه عدا أمير واحد وهو شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار ، وعندما اقترب العصر رأى السلطان نائبه بيدرا ومن معه من الأمراء قادمون إليه ،
فقام بيدرا بضرب السلطان بسيفه فقطع يده مع كتفه ، فتقدم الأمير حسام الدين لاجين وقال لبيدرا : يانحس ! من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته !؟ ثم ضربه لاجين وجاء من بعده كل أمير يظهر ما فى نفسه من السلطان بضربه أخرى ، ثم تركوه فى مكانه وانضموا إلى بيدرا وبايعوه السلطنة ولقبوه بالملك الأوحد وبات تلك الليلة وفى اليوم الثانى توجهوا إلى الديار المصرية فإذا بغبار عظيم متجه إليهم ما يقرب من ألف وخمسائة فارس ومعهم الأمير زين الدين كتبغا الذى أراد الأخذ بثأر سلطانه فقام بقطع يد بيدرا مثلما فعل بالسلطان ثم شقوا بطنه واخرجوا كبده وأخذ يأكل منه كل مملوك قطعة من شدة حُزنهم على أستاذهم وسلطانهم الأشرف خليل وقطعوا رأسه وحملوها وداروا بها بالقاهرة حتى الجيزة فتم تعليقها على باب بيته ، وبعدها تم أخذ رأسه وباقى جسده وتم دفنه بتربته التى أنشأها بالقرافة الصغرى .
أما الأشرف خليل فظل ملقياً فى البرية ثلاثة أيام لم يُدفن حتى أكل الذئاب وجهه ويديه ورجليه ، وعندما عاد إليه جنوده قاموا بحمله على جمل وأتوا به إلى القاهرة فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه بقبة مدرسته التى انشأها (حديثنا اليوم) ، وتم مبايعة أخيه محمد من بعده الذى لُقب بالناصر وتم تعيين كتبغا نائباً عنه .
وبذلك انتهى حكم سلطان خشى والده من مبايعته ولكنه أثبت العكس ، فكان أبيض الوجه مستدر اللحية ضخم الجسد ، كان مهاباً فى أعين الناس كفواً للسلطنة عارفاً بأحوال المملكة ، وكان شجاعاً بطلاً ، قال عنه القاضى محى الدين: ما رأيت ولا سمعت بأحسن من فهم الملك الأشرف خليل ، ولقد كنت أحضر بالمراسيم للعلامة فما كان يُعلم على مرسوم قط إلا وقرأه جميعه ويفهم ما فيه، ولقد تعاظم فى أمره حتى صار يكتب فى علامته على المراسيم حرف الخاء فقط ، ومنع الموقعين أن يكتبوا لأحد من الأمراء والنواب “زعيمى” وكان يقول “من زعيم الجيوش غيرى” ؟
ولكن من مساوئه قتل جماعة من الأمراء والنواب وتعيين ابن السلعوس وزيراً الذى تضرر الناس منه كثيراً ، ومن مساوئه أيضاً لما توجه إلى الكرك أخرج أولاد الملك الظاهر بيبرس البندقدارى وهما سلامش وسيدى خضر وأرسلهما إلى القسطنطينية مع أمهاتهما .
قُتل فى محرم 693 هـ وله من العمر نحو الثلاثين سنة ، وبذلك كانت مدة سلطنته ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام ، ومن منشآته قصر الأشرفية الذى بناه بالقلعة وصرف عليه الكثير من الأموال وجعل به مجلساً عالياً يُشرف على القاهرة والجيزة والذى ظل باقياً حتى هدمه الناصر محمد عندما بدأ فى بناء قصره الأبلق وملحقاته ، والمدرسة التى بجوار السيدة نفيسة رضى الله عنها والتى دُفن بقبتها .
قبة الأشرف خليل
تتكون من مربع حجرى ينتهى بشريط كتابى يوضح تاريخ انشائها فقد جاء أنها بُنيت فى شهور سنة 687 هـ – وهذا يعنى أنها بُنيت قبل وفاة المنصور قلاوون بعامين وقبل تولى الأشرف خليل السلطنة – يعلو الشريط شرافات مسننة يعلوها رقبة مثمنة من الآجر فتح بها ثمانية حنايا دُعمت كل حنية بعمودين فُتح بها ثمانية نوافذ يعلوها القبة ، وتعد هذه القبة من ضمن مدرسة قد أنشأها الأشرف خليل ولكن لا يوجد لها أى أثر الآن .
فُتح بالقبة ثلاثة أبواب محورية عدا جهة القبلة ، ومن الجديد بالذكر أن هذه القبة تشبه قبة فاطمة خاتون (زوجة ابيه المنصور قلاوون) المجاورة لها من حيث المساحة والأسلوب المعمارى والزخارف والكتابات ، مما جعل كرزويل يعتقد أن المعمار الذى قام ببناء القبتين واحد ، وكان يتقدم القبة سقيفة ارتفاعها ثمانية أمتار لم يبق منها سوى ضلعها الشمالى الشرقى ويعتقد أنها اُضيفت فى وقت متأخر عن زمن بناء القبة .
ولكن ما هو حال قبة سلطان عظيم مثل هذا بعد أن اختفت مدرسته فهل هى بحالة جيدة ؟
للأسف القبة تعانى من إهمال شديد وإن كانت جدارنها الخارجية تُخفى ما بداخلها ، فقد ارتفعت مياه الصرف الصحى بداخل أرضيتها ما يقرب المتر تقريبا ولا يمكن الدخول لها فهل هذا تكريمنا لمثل هذا البطل ؟ هل من أحد يشفق على رفاة هذا السلطان الذى تلاشت وتحللت ولم يبق منها شئ وسط مياة الصرف الصحى الذى مُلئت قبته بها ؟ ولمتى ستصمد هذه القبة ؟ أم أنها ستنهار قريباً مثل ما حدث بالقبة التى تجاورها ؟
