...
أقلام ترافلابرز الموادتجارب
أخر الأخبار

أميرة جمال تكتب : من الجمالية إلى الناصرية والتناقض الغريب

“بفضلها وبفضل صاحبها سُمى شارع بأكمله”.. كانت الجمالية، ثم تحولت إلى الناصرية، ثم عادت إلى أصلها مرة أخرى.

مدرسة جمال الدين الاستادار بشارع الجمالية ـ موضوع حديثنا اليوم ـ هى من قال عنها المقريزى: ” فجاءت في أحسن هندام وأتم قالب وأفخر زي وأبدع نظام إلا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أُخذ من الناس غصباً وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد .”

ـ من أنشأها ؟ ولماذا قيل عنها هذا ؟

أنشأها ذلك الأمير الذى لم يفته من السلطنة سوا الأسم وهو (جمال الدين يوسف بن احمد بن محمد بن احمد بن جعفر بن قاسم البيرى الحلبى البجاسى)، ولد بالبيرة 752 هـ ، وكان أبوه خطيباً لها ونشأ فى كنف خاله شمس الدين عبدالله بن سحلول فحفظ القرآن ودرس الفقة والعربية وغيرها وارتدى زى رجال الدين ، إلى أن توفى والده فاتى الى القاهرة بزى الجند 770 هـ وعمل أستاداراً (من يتولى أمر أموال السلطان أو الأمير) للأمير برسباى البجاسى وتزوج من ابنته فعظم قدره، وظل بهذا المنصب لأمراء آخرين منهم بيبرس وسودون الحمزاوى وغيرهما، فكان شخصا ثم تحول لشخص آخر بعدما زادت عظمته وقويت شوكته، اشتهر فى البداية بالمروءة وقضاء حوائج الناس، وصار مقصدًا للملهوفين يقضى حوائجهم ويذهب معهم إلى ذوى الجاه وكلمته نافذة، حتى أنه عُرض عليه ولاية الوزارة فى الفترة الأولى من حكم الناصر فرج بن برقوق ولكنه رفض وفضل الاستمرار فى وظيفته كأستادر .

ومن هنا جاء التحول فلم يكن تحدث صغيرة أو كبيرة بالدولة إلا وعُرضت عليه أولاً وخضع له الآمر والمأمور، وكان ذلك سبب وبداية فى انتهاكه حرمة الأوقاف سواء حلها أو استبدالها ومنها قصور القاهرة العظيمة مثل قصر يشبك والحجازية التى استبدالها ببعض الأراضى الزراعية بالجيزة، ومن تمنع من بيع وقفه دس له فى الليل من يفسد أساسه حتى يكاد يسقط

 

وفى اليوم التالى يرسل من يحذر الناس وبذلك ينقص من سعره أيضاً، فقد قيل “ومن غفل منهم أو تمنع سقط فينقص من قيمته ما كان يدفعه له لو كان قائماً” ، وإذا أعجبه وقف من الأوقاف وأراد أخذه أقام عليه شاهدين يشهدان أن هذا المكان يضر بالجار والمار ويجب استبداله، وكان يساعده فى ذلك القضاه ومن أهمهم القاضى ابن العديم.

كما قال عنه المقريزى: “والناس على دين ملوكهم فصار كل ما يريد بيع وقف أو شراء وقف سعى عند القاضى ابن العديم بجاه أو مال فيحكم له بما يريد من ذلك “.

ولم يكتف بكل هذا بل أراد قتل السلطان بالاتفاق مع الأمراء ، وعندما علم فرج أراد قتله فامر الإمساك به بدمشق ولكن أشار عليه أتابك عسكره (تغرى بردى) بالإمساك به قرب القاهرة حتى لا يفر منهم ، وبالفعل عندما وصل بلبيس تم القبض عليه وجرد من كل وظائفه وسُجن بالقلعة وتم قتله خنقاً ثم قُطعت رأسه وأُرسلت الى الناصر فرج فأمر بدفنه فى تربته بالصحراء ومصادرة جميع أمواله وأملاكه وذلك سنة 813 هـ .

المدرسة..

ومن أهم ما ترك لنا مدرسة بديعة والتى قيل عنها: ” فجاءت في احسن هندام وأتم قالب وأفخر زي وأبدع نظام إلا أنها وما فيها من الآلات وما وقف عليها أخذ من الناس غصباً وعمل فيها الصناع بأبخس أجرة مع العسف الشديد”.

شرع فى إنشأها 810 هـ وكان موضعها قيسارية وطباق قام بهدمها وأقام مدرسته التى أوقف عليها ونهب من أجلها أهم ما كان يوجد بالقاهرة فمنها ما قيل عنه أعظم مبانى القاهرة وهو قصر بشتاك وغيره، ليس هذا فقط بل جمع لها الأحجار والأخشاب والرخام بالإضافة إلى مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون التى كانت بالصوة أخد منها شبابيك من نحاس مكفت بالذهب والفضة وأبواب مصفحة بالنحاس المكفت والمصاحف وكُتب الحديث والفقة وغيره من أنواع العلوم، فقد اشترى كل ذلك من الصالح حاجى بن الأشرف شعبان بستمائة دينار وكانت قيمتها الفعلية عشرات أمثال ذلك .

تخطيط المدرسة..

تتكون مثلها مثل أغلب المدارس من صحن أوسط مكشوف يحيط به أربعة إيوانات، فُرشت أرضية الصحن برخام ملون دقيق لم يبق منه إلا أجزاء صغيرة تتوسطه بركة، ويتوسط جدار القبلة محراب زين برخام أحمر وأبيض وأسود ولازوردى، يجاوره منبر خشبى، وقد أُلحقت بالمدرسة حجرة سبيل تشتمل على طابق علوى به مجموعة من خلاوى الطلبة، كما أُلحق بها أيضاً مئذنة تقع بالركن الشمالى الغربى ولكنها غير مكتملة فقد سقط الجزء العلوى منها، وتُعد من المدارس المعلقة حيث يُصعد إليها بسلم مزدوج .

وقد امتازت هذه المدرسة بجمال رخام وزارتها ودقة نجارة سقوفها وسلامة ذوق نقوشها، ولكنها لم ترق من الناحية الهندسية، فقد اشتملت على حوائط كاملة أكبر سمكاً من أساساتها التى تحملها، وكان ذلك سبباً فى تدهور حالتها وسقوط مئذنتها، بالإضافة لما حدث لها بعد مقتل مُنشئها، فبعد مقتل جمال الدين الاستادار أمر الناصر فرج بمصادرة جميع أمواله وأملاكه وذلك بعد أخذ حكم من القضاة، ومن ضمنها تلك المدرسة التى أراد فى بداية الأمر هدمها ولكنه تراجع بعد أن حذره الكثير من ذلك فأكتفى بإزالة اسم جمال الدين ورنكه من عليها ووضع بدلاً منه اسم الناصر وبذلك تحولت من الجمالية نسبة لمُنشئها إلى الناصرية نسبة للناصر فرج.

ظلت الناصرية حتى مقتل الناصر فرج وتولى المؤيد شيخ فأخذ حكم من القضاه بإعادة المدرسة وأوقاف جمال جميعها إلى أخيه وعادت الجمالية مرة أخرى والتى كانت سبب فى تسمية الشارع .

من هنا كانت قصة المدرسة من أعجب ما سمع به فى تناقض القضاة وحُكمهم بإبطال ما صححوه ثم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلاً مع الجاه وحرصاً على بقاء رياستهم وننتهى بمقولة المقريزى الشهيرة على هذه المدرسة من قوله تعالى: ” سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ “.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Languages - لغات »